كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَكَذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِنْدَهُمْ إنَّا لَمْ نُشَاهِدْ قَطُّ أحداثَ اللَّهِ تعالى لِشَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا. وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالثِّمَارِ وَالْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ جَمْعُ الْجَوَاهِرِ وَتَفْرِيقُهَا وَتَغْيِيرُ صِفَاتِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ لَا أَنَّهُ يُبْدِعُ شَيْئًا مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا وَهَذَا الْقول أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُهُ وَيَقول: هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ الْجِسْمُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْغِلَظُ نَفْسُهُ وَهُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الشَّيْءُ الْغَلِيظُ وَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ. فَنَقول: هَذَا الثَّوْبُ لَهُ جِسْمٌ: أَيْ غِلَظٌ وَقوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَرَنَ الْجِسْمَ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ. فَنَقول الْمَعْنَى زَادَهُ بَسْطَةً فِي قَدْرِهِ فَجَعَلَ قَدْرَ بَدَنِهِ أَكْبَرَ مِنْ بَدَنِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْجِسْمُ هُوَ الْقَدْرُ نَفْسُهُ لَا نَفْسَ الْمُقَدَّرِ. وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} أَيْ صُوَرُهُمْ الْقَائِمَةُ بِأَبْدَانِهِمْ كَمَا تَقول: أَعْجَبَنِي حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ وَلَوْنُهُ وَبَهَاؤُهُ فَقَدْ يُرَادُ صِفَةُ الْأَبْدَانِ وَقَدْ يُرَادُ نَفْسُ الْأَبْدَانِ وَهُمْ إذَا قالوا: هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَرَادُوا أَنَّهُ أَغْلَظُ وَأَعْظَمُ مِنْهُ أَمَّا كَوْنُهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْعِظَمَ وَالْغِلَظَ كَانَ لِزِيَادَةِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ إلَّا مَنْ أَخَذَ ذَلِكَ عَمَّنْ اعْتَقَدَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الَّذِي أحدثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقرأضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ إلَّا فِي أَوَاخِرَ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ لَمَّا ظَهَرَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَالْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ظَهَرَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قال: الْجِسْمُ هُوَ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَعْنًى عَقْلِيًّا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحد مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي اصْطِلَاحِهِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي اللُّغَةِ فَقَدْ غَيَّرَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَادَّعَى مَعْنًى عَقْلِيًّا فِيهِ نِزَاعٌ طَوِيلٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الشَّرْعِ مَا يُوَافِقُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَلَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ فَاللُّغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا قال وَالشَّرْعُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قال وَالْعَقْلُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مُسَمَّيَاتِ الْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ طَوِيلٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ لَا يَحْتَاجُ نَفْيُهُ إلَى مَا أحدثَهُ هَذَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَلَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ بَلْ الَّذِينَ جَعَلُوا هَذَا عُمْدَتَهُمْ فِي تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَلَى نَفْيِ مُسَمَّى الْجِسْمِ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّقَائِصِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّهُمْ إذَا قالوا: هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَكُلُّ مَا أَثْبَتُوهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ مِثْلُ كَوْنِهِ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا بَلْ كَوْنِهِ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا فِي الشَّاهِدِ إلَّا جِسْمًا فَإِذَا قال الْمُنَازِعُ: أَنَا أَقول فِيمَا نَفَيْتُمُوهُ نَظِيرَ قولهمْ فِيمَا أَثْبَتُّمُوهُ انْقَطَعُوا. ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّبِّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عِنْدَهُمْ هَلْ عُلِمَ بِالْإِجْمَاعِ فَقَطْ أَوْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ أَيْضًا؟ فِيهِ قولانِ. فَمَنْ قال إنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يُنَزِّهُونَ بِهِ الرَّبَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّقَائِصِ هَذَا إذَا لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ مِثْلُ نَفْيِهِ لِلنَّقَائِصِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا وَيَنْفِي عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهُ وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجْمَعَانِ التَّنْزِيهَ الْوَاجِبَ لِلَّهِ و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} دَلَّتْ عَلَى النَّوْعَيْنِ. فَقوله: أحد مَعَ قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد} يَنْفِي الْمُمَاثَلَةَ وَالْمُشَارَكَةَ وَقوله الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَالنَّقَائِصُ جِنْسُهَا مَنْفِيٌّ عَنْ اللَّهِ تعالى وَكُلُّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَخْلُوقُ فَهُوَ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا بِخِلَافِ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ. وَيُوصَفُ الْعَبْدُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ: مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ نَقَائِصَ بَلْ مَا ثَبَتَ لِلَّهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَارِبُهُ فِيهِ أحد مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِيهِ بَلْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ لَا يُمَاثِلُ مَا خَلَقَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ.
قال: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَبَنًا وَخَمْرًا وَعَسَلًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ. فَالْخَالِقُ تعالى أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إلَى الْمَخْلُوقِ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ عَلِيمًا حَلِيمًا رَءُوفًا رَحِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَزِيزًا مَلِكًا جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا. مُؤْمِنًا عَظِيمًا كَرِيمًا غَنِيًّا شَكُورًا. كَبِيرًا حَفِيظًا شَهِيدًا حَقًّا وَكِيلًا وَلَّيَا وَسَمَّى أَيْضًا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَسَمَّى الْإِنْسَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَسَمَّى نَبِيَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ مَلِكًا وَبَعْضَهُمْ شَكُورًا وَبَعْضَهُمْ عَظِيمًا وَبَعْضَهُمْ حَلِيمًا وَعَلِيمًا وَسَائِرُ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ مُمَاثِلًا لِلْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ.
وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقول: هُوَ مُتَحَيِّزٌ وَهُوَ فِي جِهَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَيْسَ فِي جِهَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: هُوَ فِي جِهَةٍ وَلَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَفْظُ الْمُتَحَيِّزِ يَتَنَاوَلُ الْجِسْمَ وَالْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَلَفْظُ الْجَوْهَرِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَحَيِّزُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ. وَمِنْ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ يَدَّعِي إثْبَاتَ جَوَاهِرَ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا غَيْرِ مُتَحَيِّزَةٍ. وَمُتَأَخِّرُو أَهْلِ الْكَلَامِ كَالشِّهْرِسْتَانِي وَالرَّازِي والآمدي وَنَحْوِهِمْ يَقولونَ: لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ- وَهُوَ إنَّمَا يُثْبِتُ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ- يَقول بِتَقْدِيرِ وُجُودِ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةٍ فَلَيْسَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَلِهَذَا صَارَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ خَلَطَ الْكَلَامَ بِالْفَلْسَفَةِ إلَى قَدَمِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ وَحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِحُدُوثِهَا هُوَ حُدُوثُ تَصَوُّرٍ مِنْ تَصَوُّرَاتِ النَّفْسِ وَبَعْضِ أَعْيَانِ الْمُصَنِّفِينَ كَانَ يَقول بِهَذَا. وَكَذَلِكَ الأرموي صَاحِبُ (اللُّبَابِ) الَّذِي أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى دَوَامِ الفاعلية الْمُتَضَمِّنَةِ أَنَّهُ لابد لِلْحُدُوثِ مِنْ سَبَبٍ فَأَجَابَ بِالْجَوَابِ الْبَاهِرِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الرَّازِي فِي (الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ) فَإِنَّهُ أَجَابَ بِهِ وَهُوَ فِي (الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ) يَخْلِطُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ حَائِرٌ وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَجْوِبَةِ. فَإِنَّهُ يُقال. مَا الْمُوجِبُ لِحُدُوثِ تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ دَائِمًا ثُمَّ إنَّ النَّفْسَ عِنْدَهُمْ لابد أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالْجِسْمِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ نَفْسٍ بِدُونِ جِسْمٍ.
وَأَيْضًا فَاَلَّذِي عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَأَيْضًا فَمَا تُثْبِتُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقالوا انْتِفَاءُ هَذِهِ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَدَّعِي الْفَلَاسِفَةُ إثْبَاتَهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعُقَلُ وَالنَّفْسُ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ فَلَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ مَعْقولةٌ فِي الذِّهْنِ يُجَرِّدُهَا الْعَقْلُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا يُجَرِّدُ الْعَقْلَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَصْنَافِ: كالحيوانية الْكُلِّيَّةِ والإنسانية الْكُلِّيَّةِ وَالْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَمَنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّاتٌ وَأَنَّ فِي الْخَارِجِ مَاهِيَّاتٍ كُلِّيَّةً مُقَارِنَةً لِلْأَعْيَانِ غَيْرَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ كُلِّيَّاتٍ مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَعْيَانِ يُسَمُّونَهَا (الْمُثُلَ الأفلاطونية) وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ دَهْرًا مُجَرَّدًا عَنْ الْمُتَحَرِّكِ وَالْحَرَكَةِ وَيُثْبِتُ خَلَاءً مُجَرَّدًا لَيْسَ هُوَ مُتَحَيِّزًا وَلَا قَائِمًا بِمُتَحَيِّزِ. وَيُثْبِتُ هَيُولَى مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ وَالْهَيُولَى فِي لُغَتِهِمْ بِمَعْنَى الْمَحَلِّ. يُقال الْفِضَّةُ هَيُولَى الْخَاتَمِ وَالدِّرْهَمِ وَالْخَشَبِ هَيُولَى الْكُرْسِيِّ.
أَيْ هَذَا الْمَحَلُّ الَّذِي تُصْنَعُ فِيهِ هَذِهِ الصُّورَةُ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الصِّنَاعِيَّةُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ لِلْجِسْمِ هَيُولَى مَحَلَّ الصُّورَةِ الْجِسْمِيَّةِ غَيْرَ نَفْسِ الْجِسْمِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا غَلَطٌ. وَإِنَّمَا هَذَا يُقَدَّرُ فِي النَّفْسِ كَمَا يُقَدَّرُ امْتِدَادُ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلِّ مُمْتَدٍّ وَعَدَدٍ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلٍّ مَعْدُودٍ وَمِقْدَارٍ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلّ مُقَدَّرٍ وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ. وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ مَنْ عَادَتُهُ نَصْرُ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ. كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَالْجَوَاهِرُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُثْبِتُهَا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بَعْد التَّصَوُّرِ التَّامِّ انْتِفَاؤُهَا فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهَذِهِ لَا يَعْرِفُهَا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ أَتْبَاعَ أَرِسْطُو وَلَا يَذْكُرُونَهَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ كَمَا لَا يَعْرِفُونَ النُّبُوَّاتِ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ النُّبُوَّاتِ وَبَيْنَ الْفَلْسَفَةِ فَلَبَّسُوا وَدَلَّسُوا. وَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ الْأُولَى الَّتِي يُثْبِتُونَهَا لِهَذَا الْعَالَمِ إنَّمَا أَثْبَتُوا عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا وَتَحْرِيكُهَا لِلْفَلَكِ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيكِ الإمام الْمُقْتَدَى بِهِ لِلْمُؤْتَمِّ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِأمامهِ وَيَقْتَدِيَ بِأمامهِ وَلَفْظُ (الْإِلَهِ) فِي لُغَتِهِمْ يُرَادُ بِهِ الْمَتْبُوعُ الإمام الَّذِي يَتَشَبَّهُ بِهِ فَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِالْإِلَهِ وَلِهَذَا جَعَلُوا (الْفَلْسَفَةَ الْعُلْيَا) و(الْحِكْمَةَ الْأُولَى) إنَّمَا هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَكَلَامُ أَرِسْطُو فِي عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ فِي (مَقالةِ اللَّامِ) الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِ وَفِي غَيْرِهَا كُلُّهُ يَدُورُ عَلَى هَذَا وَتَارَةً يُشَبِّهُ تَحْرِيكَهُ لِلْفَلَكِ بِتَحَرِّيك الْمَعْشُوقِ لِلْعَاشِقِ لَكِنَّ التَّحْرِيكَ هُنَا قَدْ يَكُونُ لِمَحَبَّةِ الْعَاشِقِ ذَاتَ الْمَعْشُوقِ أَوْ لِغَرَضٍ يَنَالُهُ مِنْهُ وَحَرَكَةُ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ يَتَحَرَّكُ لِيَتَشَبَّهَ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَهُوَ يُحِبُّهَا أَيْ يُحِبُّ التَّشَبُّهَ بِهَا لَا يُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَهَا وَلَا يُحِبَّ شَيْئًا يَحْصُلُ مِنْهَا وَيُشَبِّهُ ذَلِكَ أَرِسْطُو بِحَرَكَةِ النَّوَامِيسِ لِأَتْبَاعِهَا أَيْ أَتْبَاعِ النَّامُوسِ قَائِمُونَ بِمَا فِي النَّامُوسِ وَيَقْتَدُونَ بِهِ وَالنَّامُوسُ عِنْدَهُمْ هِيَ السِّيَاسَةُ الْكُلِّيَّةُ لِلْمَدَائِنِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ ذَوُو الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُمْ؛ لِئَلَّا يَتَظَالَمُوا وَلَا تَفْسُدَ دُنْيَاهُمْ. وَمَنْ عَرَفَ النُّبُوَّاتِ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ نَوَامِيسِهِمْ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا؛ بِوَضْعِ قَانُونِ عدلي؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ النُّبُوَّةَ وَجَعَلُوا النُّبُوَّةَ لابد مِنْهَا لِأَجْلِ وَضْعِ هَذَا النَّامُوسِ وَلَمَّا كَانَتْ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْخِلْقِيَّةُ وَالْمَنْزِلِيَّةُ وَالْمَدَنِيَّةُ: جَعَلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْحِكْمَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ. فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ بَلْ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ كُفَّارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ. وَأَرِسْطُو الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ إلَى الْغَايَةِ. لَكِنْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَهَذَا بَحْرُ عِلْمِهِمْ وَلَهُ تَفَرَّغُوا وَفِيهِ ضَيَّعُوا زَمَانَهُمْ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تعالى فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مَبْخُوسٌ جِدًّا وَأَمَّا مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلُهُ وَالْمَعَادُ. فَلَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهِ لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ الدَّاخِلُونَ فِي الْمِلَلِ. وَأَمَّا قُدَمَاءُ الْيُونَانِ فَكَانُوا مُشْرِكِينَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَسِحْرًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَلِهَذَا عَظُمَتْ عِنَايَتُهُمْ بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْكَوَاكِبِ لِأَجْلِ عِبَادَتِهَا. وَكَانُوا يَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَكَانَ آخِرُ مُلُوكِهِمْ بَطْلَيْمُوس صَاحِبَ (الْمَجِسْطِي) وَلَمَّا دَخَلَتْ الرُّومُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَجَاءَ دِينُ الْمَسِيحِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَبْطَلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ. وَلِهَذَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ فَوَضَعَ دِينًا مُرَكَّبًا مِنْ دِينِ الْمُوَحِّدِينَ وَدِينِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَيُصَلُّونَ لَهَا وَيَسْجُدُونَ فَجَاءَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ النَّصَارَى وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَابْتَدَعُوا الصَّلَاةَ إلَى الْمَشْرِقِ وَجَعَلُوا السُّجُودَ إلَى الشَّمْسِ بَدَلًا عَنْ السُّجُودِ لَهَا وَكَانَ أُولَئِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ الْمُجَسَّدَةَ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ فَجَاءَتْ النَّصَارَى وَصَوَّرَتْ تَمَاثِيلَ الْقَدَادِيسَ فِي الْكَنَائِسِ وَجَعَلُوا الصُّوَرَ الْمَرْقُومَةَ فِي الْحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ بَدَلَ الصُّوَرِ الْمُجَسَّدَةِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا الَّتِي لَهَا ظِلٌّ.
وَأَرِسْطُو كَانَ وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فيلبس الْمَقْدُونِيِّ- نِسْبَةً إلَى مَقْدُونِيَّةَ- وَهِيَ جَزِيرَةُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَشَّائِينَ وَهِيَ الْيَوْمُ خَرَابٌ أَوْ غَمَرَهَا الْمَاءُ وَهُوَ الَّذِي يُؤَرِّخُ لَهُ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ التَّارِيخَ الرُّومِيَّ وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سُنَّةٍ فَيَظُنُّ مَنْ يُعَظِّمُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ أَنَّهُ كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي القرآن لِيُعَظِّمَ بِذَلِكَ قَدْرَهُ وَهَذَا جَهْلٌ؛ فَإِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ قَبْلَ هَذَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا وَذُو الْقَرْنَيْنِ بَنَى سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَذَا الْمَقْدُونِيُّ ذَهَبَ إلَى بِلَادِ فَارِسَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى بِلَادِ الصِّينِ؛ فَضْلًا عَنْ السَّدِّ. وَالْمَلَائِكَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تعالى لَيْسُوا عَشَرَةً وَلَا تِسْعَةً وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ أَحْيَاءُ نَاطِقُونَ يَنْزِلُونَ إلَى الْأَرْضِ وَيَصْعَدُونَ إلَى السَّمَاءِ. وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ. كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقوله: {وَقالوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولدا سبحانه بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ.
وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعُقول قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَأَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ هَذَا الْفَلَكِ وَالْعَقْلُ الْأَوَّلُ هُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْمَلَأحدةُ الَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ بَنِي عُبَيْدٍ: كَأَصْحَابِ رَسَائِلَ إخْوَانِ الصَّفَا وَغَيْرِهِمْ وَكَمَلَأحدةِ الْمُتَصَوِّفَةِ: مِثْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِمَا يَحْتَجُّونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ». وَفِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ فِي (الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي هَؤُلَاءِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ وَيُعَبِّرُ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ بِلَفْظِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ الْجِسْمُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ. فَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ الْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ وَيُودِعُونَهَا مَعَانِيَ هَؤُلَاءِ وَتِلْكَ الْعِبَارَاتُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا سَمِعُوهَا قَبِلُوهَا ثُمَّ إذَا عَرَفُوا الْمَعَانِيَ الَّتِي قَصَدَهَا هَؤُلَاءِ ضَلَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ هَذِهِ مَعَانِي هَؤُلَاءِ الْمَلَأحدةِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي عَنَاهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم وَإِخْوَانُهُ الْمُرْسَلُونَ: مِثْلُ مُوسَى وَعِيسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَلِهَذَا ضَلَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِسَبَبِ هَذَا الِالْتِبَاسِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا يَقوله هَؤُلَاءِ حَتَّى يَضِلَّ بِهِمْ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي مُخَالَفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَلْ يُحِبُّ اتِّبَاعَهُ مُطْلَقًا وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ لَكِنْ لِعَدَمِ كَمَالِ عِلْمِهِ بِمَعَانِي مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَقَاصِدِ هَؤُلَاءِ يَقْبَلُ هَذَا. لاسيما إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ فِي الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ. وَرَأَى الطَّالِبُ أَنَّ هَذَا مَرْتَبَتُهُ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ إنَّمَا يَعْرِفُونَ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ وَفَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدِّثِ الَّذِي غَايَتُهُ أَنْ يَنْقُلَ أَلْفَاظًا لَا يُعْلَمُ مَعَانِيهَا وَكَذَلِكَ الْمُقرئ وَالْمُفَسِّرِ وَرَأَى مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إمَّا مُوَافِقٌ لَهُمْ وَإِمَّا خَائِفٌ مِنْهُمْ وَرَأَى بُحُوثَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَأْتُوا بِتَحْقِيقِ يُبَيِّنُ فَسَادَ قولهمْ بَلْ تَارَةً يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أُصُولٍ لَهُمْ تَكُونُ فَاسِدَةً وَتَارَةً يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَمْرٍ قالتْهُ الْفَلَاسِفَةُ وَيَكُونُ حَقًّا مِثْلَ مَنْ يَرَى كَثِيرًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يُخَالِفُهُمْ فِي أُمُورٍ طَبِيعِيَّةٍ وَرِيَاضِيَّةٍ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْصُرُ الشَّرْعَ وَيَكُونُ الشَّرْعُ مُوَافِقًا لِمَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ. مِثْلُ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بَيْنَ السَّلَفِ خِلَافٌ فِي أَنَّهَا مُسْتَدِيرَةٌ وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْأَجْسَامِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ كَمَا قال هَؤُلَاءِ. إلَى أُمُورٍ أُخَرِ. لَكِنَّ كَثِيرَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَا خِبْرَةَ لَهُمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ بَلْ يَنْصُرُ مَقالاتٍ يَظُنُّهَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَكُونُ قَدْ قالهَا أحد مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ الثَّابِتُ عَنْ السَّلَفِ مُخَالِفٌ لَهَا. فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَقْصِيرٌ وَجَهْلٌ كَثِيرٌ بِحَقَائِقِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ تَارَةً يُوَافِقُونَ الْفَلَاسِفَةَ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَارَةً يُخَالِفُونَهُمْ فِي حَقِّهِمْ صَارَتْ الْمُنَاظَرَاتُ بَيْنَهُمْ دُوَلًا. وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُونَ أَصَحَّ مُطْلَقًا فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ كَمَا أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِيَّاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ؛ فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ كَلَامُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ كَلَامٌ قَاصِرٌ جِدًّا وَفِيهِ تَخْلِيطٌ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ جَيِّدًا فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَفِي كُلِّيَّاتِهَا فَكَلَامُهُمْ فِيهَا فِي الْغَالِبِ جَيِّدٌ. وَأَمَّا الْغَيْبُ الَّذِي تُخْبِرُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُلِّيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي تَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا وَتَقْسِيمُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قِسْمَةٌ صَحِيحَةٌ فَلَا يَعْرِفُونَهَا أَلْبَتَّةَ: فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ أَحَاطَ بِأَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا الْحَسَيَاتِ وَبَعْضَ لَوَازِمِهَا وَهَذَا مَعْرِفَةٌ بِقَلِيلٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ جِدًّا فَإِنَّ مَا لَا يَشْهَدُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَعْظَمُ قَدْرًا. وَصِفَةً مِمَّا يَشْهَدُونَهُ بِكَثِيرِ. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَا عَرَفْته الْفَلَاسِفَةُ إذَا سَمِعُوا إخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا مَا عَلِمُوهُ هُمْ وَالْفَلَاسِفَةُ: يَصِيرُونَ حَائِرِينَ مُتَأَوِّلِينَ لِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا عَرَفُوهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ بِهَذَا النَّفْيِ عِلْمٌ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ لَكِنَّ نَفْيَهُمْ هَذَا كَنَفْيِ الطَّبِيبِ لِلْجِنِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صِنَاعَةِ الطِّبّ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْجِنِّ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي عِلْمِ الطِّبِّ مَا يَنْفِي وُجُودَ الْجِنِّ وَهَكَذَا تَجِدُ مِنْ عَرَفَ نَوْعًا مِنْ الْعِلْمِ وَامْتَازَ بِهِ عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَهُ فَيَبْقَى بِجَهْلِهِ نَافِيًا لِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَبَنُو آدَمَ ضَلَالُهُمْ فِيمَا جَحَدُوهُ وَنَفَوْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَكْثَرُ مِنْ ظِلَالِهِمْ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَصَدَّقُوا بِهِ.